د. ياسمين كالميت

أصبح عدم الاستقرار السياسي سمة متكررة في أرجاء أمريكا اللاتينية. وتشمل أعراض هذه الظاهرة هشاشة الأنظمة الديمقراطية، وانعدام الثقة في الأحزاب السياسية، وصعود التيارات الأيديولوجية المتطرفة –سواء من اليسار أو اليمين– وتراجع المشاركة المدنية. ومع اقتراب بوليفيا من الاحتفال بمرور قرنين على تأسيسها كدولة ذات سيادة، تجد نفسها غارقة في أشد أزماتها السياسية منذ بداية تاريخها الحديث. فبعد أن كانت تُعد نموذجاً إقليمياً للنمو الشامل خلال الفترة ما بين 2006 و2019، باتت البلاد اليوم تواجه حالة من عدم الاستقرار المؤسسي، وخاصة مع الأزمة الناجمة عن استبعاد "إيفو موراليس" من الانتخابات الرئاسية القادمة، وتراجعاً في احتياطيات النقد الأجنبي، وارتفاعاً في معدلات التضخم، وانقسامات داخل الحزب الحاكم "الحركة نحو الاشتراكية". يتطلب فهم الوضع الحالي للبلاد تحليل العوامل الرئيسية التي أسهمت في تشكيل هذا المشهد، ولا سيما الصراعات الداخلية داخل الحزب الحاكم، والتدهور الاقتصادي، وانعكاسات ذلك على الديمقراطية البوليفية في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية المقررة في أغسطس 2025.أبعاد رئيسيةتواجه بوليفيا عدداً من التحديات الرئيسية التي تؤثر على الاستقرار الداخلي، وهي التحديات التي يمكن تناولها على النحو التالي: 1- مواصلة الانقسامات داخل الحزب الحاكم: يتولى حزب "الحركة نحو الاشتراكية" السلطة التنفيذية منذ عام 2006. وقد بدأ مسيرته كحزب يساري ذي طابع شعبي وأساسات قومية في فترة الثمانينيات، بهدف الدفاع عن حقوق الفلاحين والسكان الأصليين، ومناهضة السياسات النيوليبرالية، مع تعزيز دور الدولة في التنمية والحماية الاقتصادية. ساعد صعود إيفو موراليس إلى البرلمان في عام 1997 الحزب على التماسك، حيث قاد شريحة واسعة من الاحتجاجات الاجتماعية التي شهدتها بوليفيا مطلع القرن الحادي والعشرين.وفاز موراليس في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 2005، ما جسّد التزام الحزب بتحديث بوليفيا من خلال تعزيز التصنيع بدعم من تدخل الدولة، وتحقيق الإدماج الاجتماعي والثقافي، وإعادة توزيع الموارد عبر برامج الخدمات الاجتماعية. إلا أن موراليس مع مرور الوقت، بدأ بتشخيص الحزب وتحويله إلى أداة سياسية شخصية، ما أدى إلى انقسام بين جناح "إيفيستا" الموالي له، والجناح التجديدي بقيادة الرئيس الحالي لويس آرس.ورغم أن آرس، المنتخب في 2020، سعى في البداية إلى الحفاظ على استمرارية مشروع موراليس، فإن الخلافات حول السياسات الاقتصادية والسياسية سرعان ما أدت إلى تفكك داخلي. ويطمح موراليس إلى العودة إلى السلطة، غير أن المحكمة الدستورية منعته من الترشح مجدداً استناداً إلى حدود عدد الولايات الرئاسية.2- استمرار الصراع بين "موراليس" والرئيس الحالي "آرس": تتجاوز الخلافات بين الرئيس الحالي "آرس" ومنافسه "موراليس" البعد السياسي؛ فهي صراع على السيطرة على مؤسسات الدولة وتحديد توجه البلاد. يتهم موراليس آرس بممارسة الاضطهاد السياسي، فيما يحمّل آرس موراليس مسؤولية الأزمة الاقتصادية الحالية. وقد شلّت هذه الخصومة قدرة الحكومة على العمل وأضعفت مؤسسات الدولة في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية.3- تصاعد الاحتجاجات الرافضة لاستبعاد "موراليس" من الانتخابات القادمة: تتصاعد الاضطرابات الداخلية والاحتجاجات الرافضية لاستبعاد "موراليس" من الانتخابات الرئاسية القادمة؛ حيث أعلن أنصار الرئيس البوليفي السابق إيفو موراليس عن احتجاجات مفتوحة ابتداءً من يوم 26 مايو 2025 في لاباز. وتستهدف المظاهرات الرئيس لويس آرسي، وقضاة المحكمة الدستورية، ومسؤولي المحكمة العليا للانتخابات. وقال إنريكي ماماني، ممثل حركة "الإنتركولتوراليس"، إن التعبئة ستستمر حتى استقالة هؤلاء المسؤولين. ومن المقرر أن ينطلق أول التجمعات في الساعة العاشرة صباحاً من وسط مدينة لاباز. كما يتهم أنصار موراليس الحكومة بالتلاعب الانتخابي، ويؤكدون أن السلطات استبعدت موراليس عمداً من الانتخابات الرئاسية المقررة في أغسطس، من خلال تدخلات قضائية موجّهة.4- تزايد المشكلات الاقتصادية الداخلية: تواجه بوليفيا وضعاً اقتصادياً مقلقاً للغاية. فقد بلغ معدل التضخم السنوي 15% في أبريل 2025. كما أدى نقص الدولار الأمريكي إلى اضطرار الحكومة لبيع احتياطياتها من الذهب من أجل تمويل واردات الوقود المدعوم.وقد أدى هذا النقص في العملات الأجنبية إلى نشوء سوق موازية يتم فيها تداول الدولار بأسعار تفوق بكثير السعر الرسمي. وأسهم هذا التشوّه في سعر الصرف في تسريع هروب رؤوس الأموال وصعّب من عملية الاستيراد، مما أدى إلى نقص في السلع الأساسية وارتفاع تكلفة المعيشة. في المقابل، ترفض الحكومة اللجوء إلى إجراءات تقشفية أو طلب دعم من صندوق النقد الدولي، خوفاً من التبعات السياسية لذلك.وقد أشعل هذا التدهور الاقتصادي موجة من الاحتجاجات في مختلف أنحاء البلاد. فقد خرج العمال والطلبة والحركات الاجتماعية إلى الشوارع مطالبين بتغيير السياسات الاقتصادية وتعزيز الشفافية الحكومية. وفي لاباز، قام عمال المناجم بإغلاق الطرق الرئيسية لمدة يومين في أبريل الماضي، مطالبين بتحسين ظروف العمل واعتماد سياسات عامة أكثر فاعلية.5- تراجع الثقة الشعبية في النظام الديمقراطي: ألقت الأزمة السياسية والاقتصادية بظلالها على المؤسسات الديمقراطية في بوليفيا. فقد تراجعت ثقة الجمهور بالنظام الديمقراطي، حيث يرى عدد متزايد من المواطنين أن الحكم الاستبدادي قد يكون خياراً مفضلاً في بعض الحالات. وتغذي هذه الرؤية حالة الاستقطاب السياسي، وتهم الفساد، وعجز المؤسسات عن حل النزاعات الداخلية.وقد كشفت محاولة الانقلاب في يونيو 2024، بقيادة الجنرال خوان خوسيه زونيغا، عن هشاشة المؤسسات البوليفية. ورغم إحباط الانقلاب سريعاً، فقد أظهر التوتر القائم داخل القوات المسلحة وضعف النظام الديمقراطي في البلاد. كما أن الاستياء الشعبي بات يمثل مصدر قلق كبير، وهو ما تؤكده استطلاعات الرأي الأخيرة. إذ أظهر أحدث البيانات أن 87% من البوليفيين يرغبون في تغيير مسار البلاد. ويقوض هذا السخط الواسع شرعية الحكومة ويزيد من خطر حدوث اضطرابات اجتماعية.6- انعكاسات غموض المشهد الانتخابي 2025: من المقرر إجراء الانتخابات الرئاسية في 17 أغسطس 2025، وهي لحظة مفصلية في مستقبل بوليفيا. ومع انقسام حزب "الحركة نحو الاشتراكية" وتشرذم المعارضة، يظل المشهد الانتخابي غامضاً إلى حد كبير. ويزيد من تعقيد هذا السياق ثلاثة عوامل: أولاً، إلغاء الانتخابات التمهيدية كوسيلة لمنع ترشح إيفو موراليس. ثانياً، بروز مرشح جديد من داخل الحزب هو أندرونيكو رودريغيز. وثالثاً، انسحاب الرئيس لويس آرس من السباق، معلناً افتقاره للدعم السياسي الكافي داخل الحزب وخارجه.ويُقدم آرس استقالته كمحاولة لمنع تفاقم الانقسامات الوطنية، ووقف زحف مشروع نيوليبرالي –من وجهة نظره– يهدف إلى "تفكيك" الدولة متعددة القوميات. كما أن استراتيجيته موجهة ضد موراليس، حيث يدعوه إلى الانسحاب من السباق الرئاسي لتفادي تشتيت أصوات اليسار، وهو ما قد يصب في مصلحة اليمين ويفقد الحزب الحاكم سيطرته على مؤسسات الدولة.ترقب دولي تتابع الأوساط الدولية الأزمة السياسية في بوليفيا بقلق بالغ، نظراً إلى أن البلاد تمثل مورداً حيوياً للغاز الطبيعي لعدد من الدول في المنطقة وخارجها. علاوة على ذلك، قد تؤدي حالة عدم الاستقرار السياسي المستمرة إلى اضطراب العلاقات الإقليمية في أمريكا الجنوبية، وزيادة الاستقطاب، وعرقلة التفاوض حول الاتفاقيات الدولية، وتثبيط جهود إنشاء تكتل اقتصادي إقليمي قادر على التفاعل مع أسواق جديدة وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة.

كيف تفاقمت الاضطرابات الداخلية في بوليفيا؟